>>>>ماذا تعني قضية فلسطين اليوم؟
كانت قضية فلسطين تعني تحرير الوطن السليب من الاحتلال الصهيوني. ماذا تراها تعني اليوم؟
جملة أمور في آن واحد، لعل التحرير آخرها. ذلك أن قضايا أخرى باتت تتقدم عليه من حيث الاهتمام والتركيز. وهذا بدوره يتوقف على تفاوت في التقدير بين جهة وأخرى. فما أولى اليوم بالاهتمام بالنسبة لحركة "حماس" و"حكومتها" في غزة غيرُه بالنسبة لحركة "فتح" و"حكومتها" في رام الله.
بحسبة سريعة تعني قضية فلسطين، في الوقت الحاضر، الأمور الآتية دونما تقويم لتقدّم بعضها من حيث الأهمية على بعضها الآخر: استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، استعادة وحدة السلطة الفلسطينية، مصالحة "فتح" و"حماس"، توحيد حكومتي رام الله وغزة، تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، تأمين قوت الشعب الفلسطيني ومتطلباته الاجتماعية، تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون "إسرائيل"، حماية قيادات السلطة والمنظمات الفلسطينية، وقف الاستيطان الصهيوني، وفرض الأمن والنظام في غزة والضفة الغربية وتأمين المنح والمساعدات المالية للاقتصاد الفلسطيني.
قد لا يتردد البعض في تعداد دزينة أخرى أو ربما دزينتين من الأمور التي يعتبرها قضايا فلسطينية راهنة لها الأولوية وتستحق تالياً نصيبها من الاهتمام والتركيز. لكن البعض الآخر سيتردد كثيراً قبل أن يذكر التحرير كمطلب أساس لكفاح الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة. لماذا؟
لأن قضية فلسطين تفرّعت وتناسلت إلى قضايا أخرى بسبب أسلوب "إسرائيل" في معالجتها والتصدي لحَمَلة لوائها من جهة، وبسبب الأغراض والمصالح والمطامع والتضارب في الآراء وأساليب الكفاح بين الناهضين بمسؤولية الكفاح في سبيلها، من جهة أخرى.
هل من غلوٍ في القول إن لكلٍ من المنظمات الفلسطينية في الوقت الحاضر "قضيتها" الخاصة بها؟ أليس لكلٍ منها سياستها وأسلوبها في العمل وفق فهمها الخاص للقضية ومتطلباتها؟ ألم تفقد قضية فلسطين، والحالة هذه، صفتها المركزية في حاضر الأمة؟
تتحصّل من هذه الأسئلة المقلقة حقيقةٌ ساطعة ومؤلمة في آن: أصبحت المنظمات الفلسطينية، في معظمها، تتصدى لبعضها بعضاً وتتقاتل أكثر مما تتصدى ل"إسرائيل" وتقاتلها. وعندما تنحدر قضية فلسطين، أو بالأحرى "قضايا" فلسطين المتناسلة، إلى هذا الدرك المقلق والمزري، ماذا يتبقّى لأصحابها الأصليين، للشعب الفلسطيني، من جوهرها الأصيل والأصلي كقضية تحرير؟
اليوم، غداة "مهرجان" أنابولس، يجد الفلسطينيون جميعاً أنفسهم على مفترق وأمام سؤال مصيري: ما العمل؟
السؤال المصيري يترجم نفسه إلى أسئلة عدّة بالغة الأهمية:
أنابولس وضعنا على سكة المفاوضات مع "إسرائيل"، فكم من الوقت ستستغرق هذه قبل أن نصل إلى تسوية مقبولة في شأن قضايا الوضع النهائي؟
المفاوضات تعني ضمناً وقف عمليات الاستيطان خلال تواصلها، فما بالها الولايات المتحدة تسكت عن عودة "إسرائيل" إلى مباشرة الاستيطان، رسمياً وعشوائياً، في القدس الشرقية وحولها في عمق الضفة الغربية؟
المفاوضات تتطلب جواً من الهدوء والسكينة، فلماذا تشن "إسرائيل" يومياً عمليات إقتحامية في عمق قطاع غزة، لدرجة ان 40 شهيداً قضوا عقب أنابولس و13 قضوا عقب مؤتمر المانحين في باريس، حسب الناطق باسم "حماس" طاهر النونو؟
تعزيز المركز التفاوضي الفلسطيني يتطلب إنهاء الأزمة بين " فتح" و"حماس"، فلماذا تضغط الولايات المتحدة على محمود عباس لوقف جهود المصالحة بينه وبين إسماعيل هنية من أجل استعادة الوحدة الوطنية وتعزيز المركز التفاوضي؟
الوضع الاقتصادي الاجتماعي يتردى باطراد في قطاع غزة، فهل يجوز أن تتفاوض حكومة سلام فياض مع حكومة اولمرت مع بقاء الحصار مضروباً على الشعب الفلسطيني؟ وهل تسليم المنح والمساعدات من طرف دول مؤتمر باريس بات مشروطاً بعدم صرف قسم منها على المتطلبات الفلسطينية في قطاع غزة؟الأهم من هذه الأسئلة كلها سؤال وحيد خطير هو: ما الموقف الحقيقي لإدارة بوش من تصرفات "إسرائيل" حيال جميع القضايا موضوع الأسئلة سالفة الذكر؟ هل ستلجم أمريكا "إسرائيل" لجعل المفاوضات بين الطرفين ممكنة ومجدية، أم أن المفاوضات باتت هدفاً بحد ذاته وغطاء برّاقاً لغرضٍ دنيء آخر هو تأجيج الصراع بين " فتح" و"حماس" لترهيل المفاوضات وتجويف قضية فلسطين نهائياً وجعلها مجرد اصطلاح لتمويه اقتتال أهلي مديد بين المنظمات وجماعات المصالح ومقاولي السياسة ومافيات الفساد؟ وفي مطلق الأحوال: متى التوقف عن الانخداع بأمريكا؟ متى التوقف عن الرهان على أنظمة العجز العربية؟
آن أوان طرح هذه الأسئلة في الوجدان الفلسطيني وفي العلن لدى أوساط النُخَب والقيادات والفعاليات الفلسطينية الحية والمقاومين الأنقياء المنافحين عن وجود الشعب الفلسطيني وكرامته والقيم العليا للأمة في التاريخ المعاصر.
قد تطول المناقشة وتتشعب، وقد تتعدد المقاربات والأجوبة، لكن ثمة بداية لكل بحث جاد عن الحقيقة ومدخلاً لكل جهد حثيث للخروج من التيه الفلسطيني الراهن، هما التوافق الحاسم على أن جوهر الحل وسبيله إعادةُ بناء قضية فلسطين ومركزيتها في حاضر العرب ومستقبلهم المنظور، وإعادةُ بناء منظمة التحرير بما هي كيان الشعب الفلسطيني وصانع إرادته وأداة كفاحه المديد في سبيل الحرية والتحرير وكرامة العيش والإسهام في نهضة الأمة.
آن أوان الاعتماد على النفس، والرهان على الشعب والأمة، وصنع قرارات الحاضر بصيغة المستقبل، واعتبار هدف التحرير في مستوى أهمية البقاء والمصير... ولا يسعنا القو الا حسبنا الله ونعما الوكيل وعلى العهد قائمين مع تحيات لكم